الوقت الذي يشبهك
عبرنا جسر الغياب
في اللحظة الأخيرة من صرير الورقة
كانت المحابر
في ذلك الوقت من منتصف النهار
تهذِّب الحبر والطاولةَ والمفردات
بشاهق الكلام اللطيف
والكونُ على شرفةِ الوقت يلوِّنُ الشفاه بذاكرةِ الشجر
الشجر ملاءة الظّل
وطارد الظّهيرة من شوارعِ النّهار .
في هذا الوقت الرّهيفِ من صهيلِ الأغنيات . ثمةَ شئ يحدثُ دون رغبةٍ يا سيِّدتي . الرُّعاة في حقل العملِ يزرعون وقتكِ بإرهاقاتٍ كثيرة . الغرباء على النّافذة يزيحونَ الستائرَ ويتسللون إلى أنفاق المكانِ . الليل يهرب من خيمتهِ . السائقُ يطرقُ الباب بعنف . كلهم يذبحونَ ضحكةَ الطفولة وهي تنمو بعنايةٍ في هذا الوقت من أولِ الفجر . الضحكة التي تسرد الحكايات الغائبة والشروخ الصغيرة في الصّدر . الوجه الذي عبثت به الأشواك الشريرة في الصِّبا . عراكُ الأصدقاء والصديقات . السباحة في النهر . رسائل الوقت البعيد . الركض في الشوارع والأزقة والبيوت في الحارات الجديدة .
الضحكة من بوابة الأسرار تخرج .
تتسلل من فراغات الأصابع مثل نسمةٍ تمسح الوجه في أول الصباح .
لكنه صوتكِ
أقربُ من شهقةٍ في الصّباح . يكشف الرؤيا . يفتحُ الكون بطائراتِ الطفولة . الكثير من الوقت ظلّ بقرب الضّوء . يفتح شرياناً كالرصيف . لنعبر الطريق نحو السّماء الشاهقةِ في سدرة الروح . الليلُ يشبهُ تماماً ليلُ الذاكرة القريب . رمل الخريف على بوابات البيوت الريفية . الطين الذي يخضرُّ على أناملنا . يصنعُ كائنات الأبنوس . كالآلهة المجبولةِ بالحب . توزِّع الإشارات . كان الوقت منتصف العتمة . يمسك بؤرة الضّوء مثل قنديلٍ عتيق . السّحاب الملئ بالماء يتحفزُ . الأرض تتفتح بالخصوبة . الشجر . الطير . البنات . الأولاد . النباتات . البهائم الأليفة . تنتظرُ شرفة اللّيل الأنيق .
السّماء فتحت شرفةً وغابتْ
ما زال الغيم طريّاً والوقت ليس مناسباً لتأهيلِ المياه
بعد ساعات قليلةٍ ظلّ الرّعد يصرخُ
والسّحاب ينظرُ بنافذةِ البّرق . أي الجهاتِ كانت تفرِشُ الأرض بالرغبات . هي الأرض التي فطرتها المواسم . جاهزة لرحيل اليباب . في الربع الأخير من الليل
كأنّما نبوةٌ حرّكّت أناملها بالبخار
رأيتُ السّماء تُعبَّد الكونَ بالمطر الغزير .
هو الوقتُ
كان يعيش في بيتِ الذاكرة . ينجو من خرائبِ النسيان . الوقت الذي ينالُ المسرات . يحفرُ التفاصيل . هو الوقت البعيد . كتابة الحائط من أجل الحبيبات . الشراك الصغيرة في الخلاء . وصايا الكلامِ الأخير من دفاتر العشق الخجول . هي السيرة الغائبة من حياة الوقت الذي يشبهك . الوقت الذي يشبه أوراق الرسائل . الوقت الذي يشبه أنهار الكون وقت الخريف . الوقت الذي يشبه وردة يانعةً . الوقت الذي فتحَ الينابيع في أّول الصباح . الوقت مثل صغارٍ يضحكون تحت الملاءةِ . يتسابقون في رصد النجوم . ومغازلة القمر . الصغار فاتحة الكونِ على سرير المشاغبات . سرّاق الوقت من ضجر العالم .
في العراء المجاور للمدرسةِ
كنت أناديها
ننزع الحشائش الصغيرة . نترك فراغات تشبه الحروف
حفرنا أسماءنا على الأرض .
كانت تجيد الغناء
وأنا أجيد الكتابة على السبورة الفارغة . تؤدي الأناشيد بألحانِ المغنين .
بكينا .. ضحكنا .. بكينا .. ضحكنا
الليل أوغل في الجنون
أمطرت السّماء من مقلتينا
وصمتنا في المساء الأخضر
الآن
أنظرُ كمن يرى غابات الصّمت تفتح القواميس
الكلام يسيل من شرفة الريح . اللغة مثل طفلة تحفر الطين . الطينُ مشيئةُ البنتِ على رصيفِ الحنين . الحنين تربة الولد على أريكة الطين .
ثمةَ حكايات عابرةٌ
الكهف الذي يفتح بوابتهُ . المكان الذي يأوي الذكريات . المشاوير التي أزْهَرَتْ بين الضّريح والبيت . الضريح الذي أزهرت به أشجار السّدر المثمرة . الضريح خازن الأسرار والنذور الباذخة . الضريح هو الحديقة الوحيدة في بلدتنا . كل هذا من صهيل الحكايات التي عبرت من سنوات الشوق البعيد . تلامسُ الوقت . فاتح الوجد في الينابيع .النداء في الأزل . كصدى ماهرٍ لخربشاتِ النقشِ في الصغر . شبيهُ النقش في الحجر .
أيها القلب الواقف على سبّابة الحنين
أطرق البابَ
أطرق النّافذة
الصبايا العابرات لا يكترثن
الصبيّة التي تخصك تسمعك
تُزيحُ الستارة البيضاء عن بوابةِ الغرفة
تُناديكَ
راعشاً بالطفولة أدخل
الوقت الذي يشبهُ اللهاث الرائق يعرفك
كن هنالك
قريباً من دمِ البنت التي رصفت طريق السّماء
فالغياب بركة لعينةٌ
فراغٌ معبّد بالعاصفة
شرك فاجرٌ يمسحُ الرّقةَ من زجاج الكائنات
بينما العودة
وجه أليف من سيرة العشّاق . نهرٌ يسيل من قمم المرتفعات نحو أرض مسطحة كي لا يتدحرج ثانية . العودة صرخة الأرض أمام الماء
ولهاث الطين نحو شهوةٍ فارعةٍ في الطفولة .
السّاعة تقتربُ من ولادةٍ كونيةٍ . المخاض ليس وجعاً يحرقٌ الجسد / الجسد حياة الكائن . المخاض لحظة ترقّبٍ وبشارات لرؤيا الغائب . الغائب في الذاكرة . يولد بأشواقٍ وانتظارات كانت تحضن اللغة . يقف بالعطشِ الهائلِ على بوابة الصبح . الغائبة في الذاكرة تولدُ في الساعة الثانية بعد منتصف الليل . من بوابة زجاجية تخرج . أوّل ماقاله الهواءُ ـ رائحة العطر الطازج . وصهيل أقدامها الشبيه بموسيقى المغنياتِ في سفرِ الأساطير . الأوراقُ طافحةٌ من كمائن الحقيبة . الأسطوانات عطشى لرشقِ الغناء . هي المرأة التي تشبهُ الكون . صانعةُ الوقت في الفردوسِ الأكيدْ .
رأيتها .
رأيتُ القلب يهتزُّ كرعدٍ يهيئ المطرَ
رأيتُ الأرضَ زاهية تقبِّلُ الصّباح على قارعةِ البّهوِ
رأيت النّساء العابرات
يفتحن الطّريقَ
رأيتها
من خيطٍ ناهزٍ في النّورِ
من لذّةٍ ناضجةٍ في الحبر
تشيع الضّوء كسراجِ آمنة الجميل
امرأة مغسولة في سهول الاستوائية
بفاكهةٍ ما زالت تعانق الأشجار
مثل غزالةٍ ماهرة في الركضِ تطرقُ الأرضَ بأصواتِ الحنين
ولهفة الحقول لمياهٍ رائقةٍ تبلّل التربة
تفتح نواةَ الحياة بين أقواس العاشقين
أشرعت حضور هيئتها كقمرٍ وحيدٍ
وغابت كل الوجوه الواقفة على رصيفِ الممر العريض .
رأيتُها
رأيتُها
رأيتُها
حاضنة الأساطير والأغنيات والأناشيد والكلامِ الأخير في كمائنِ الجسدْ .
الولدُ الذي كنتُ أنا . يرتدي بنطال الجينز الأزرق . والفانلةُ البيضاء / رغبة الكائنة في سلامِ العالم . بيدهِ قصة موتٍ معلن لماركيز . كأفيون لهدم الوقت وهو يتمطى في الطريق إلى المدينة . لكن الولد الذي هنا ليس سنتياغو نصار . سنتياغو نصار قُتِلَ . نصار الذي هنا يفتَحُ بابَ الحياة بوعدٍ رافقَ الروح منذ ملاذات الطفولة . رصفتهُ أوراق الرسائل بأنهارِ الفتوحات والكلام . آخر الليل . ينتظرُ على بوابةٍ واسعةٍ .
الوجوه مسرعة تمرّ
الوقت ثقيلٌ جداً يسير . القراءة الوفيرة لم تكن سوى ذريعة بائسة لتفتيت الزمن
أخيراً
الكون المرصود في أزل الحكايات يخرجُ بثيابٍ عرّفتني بها زهرةُ الشّمس
رأيتها بلون أميرةٍ من ينابيعِ الأبنوس
تطرقُ الأرض كفرسٍ في شارع النيل
الكّرزُ لون الغطاء
الصّحراء بعذريتها تلف خريطة الكون
الحذاء يشبه الكّرز تماماً
خلف نظارةٍ شفافةٍ تبرق عينان مشعّتان
إمرأة من آلهة الإغريق
خرجت من بين حنايا المدينة اللامعةِ الخُطى
كنزيف الملكات الشاهقات
تلقى بنفسها في رائحة العطر وأحضانِ العاشق
صرخَ الدّمُ
هي الزهرة التي طويتُ الأرض في اللهاث عن شرْفتها
عانقتها مثل رسولٍ أيقظته الآلهة . كانت تحدِّق في الذاكرة . لا أصدق ! . قالتها بابتسامة شرخت تراب الغياب . في المصعد الخالي تماماً . قبّلتها كطفلٍ يقتله الحنين . الممرُ الطويل كان بهيجاً ذلك الصباح . الكون فتحَ أسراره بشهوات الغيوم وبلل الأرض . الرّحلةُ نحو المجاهيل صارت دهشة الينابيع
الألفة التي رأيتها تسيل من قلب الكاهنة
رعتْها الطفولة في الأكواخِ
وبّنّتْهَا المعاول في سرداب الروح
المكان بهيجاً وراقصاً كعروسٍ عجنتْها الصّديقات في بيت الجيران
انتهى فارق الوقت بين الليل والنهار
ورغبة الرفاق في شاي الصباح والوجبات العادية
ركضنا في الغرفةِ
والأزقة والشوارع والأسواق وقاعات السينما وصالات الطعام
ومقاعد العرباتِ وبهو الفندق وردهاتِ المطار وبيوت الأزياء
شربنا كؤوسَ الليمون والسبرايت والبرتقال والحليب الطازج ...
وقفنا على السياج
الكائناتُ مثل أمواج تسيرُ
السلالم المتحركة كأسراب نملٍ تلمُ قوت المساء
ومشينا
كعصافير بين عُش الخريف
تذوقنا العصير دافئاً من شفاهٍ بللتها السّماوات .
17/05/2005
0 Comments:
Post a Comment
<< Home