محمد الصادق الحاج
يا رفيق الشوق والمحبة والكتابة ...في هذه اللحظة بَرَقَ في روحي رسول الحبر .يبدو لي انه يبحث عن ورقة " فلسكاب " يغويني لأكتب على جسدها رعونات الليل، رسائل الغربة، سيرة الفقدان، أسئلة الكتابة، مفاتيح الكون، حوارات الحياة اليومية، أشواق صداقتنا التي ذهبت بنا إلى محبة رسوله، أو هي أنهار المحبة النبيلة التي ظلّت ينبوعاً أسطورياً يفتح كهوف ذاتنا نحو مغاليق صلبة، نعبرها بجنونِ المعرفة، لنرصف طريق أشواكها بتواصل إنساني ماهر .
( 2 )
إنه الحنان يا محمدوردة الروح الهاربة من جحيم الفقدانإنه الحنان، النهر الذي يُواقعُ الأرض بمحراث المياه الخالقةنهار يكشف عتمة الذات وهي تقترف الرّحيل لذّة تقتل الموت بعناق المسافات إنه الحنانالقادم من سلالة المحبةِيرصف الورقةَ بأطفال الحبر الأزرق ويُغنَي في سرداب الروح أغنية " البلابل - قطار الشوق " .
( 3 )
في هذا الوقت المشحون بالعاطفة والمحبة والحنان وسيرة الغياب، تذكّرت تلك الرسائل يا محمد، التي كانت مثل قطار يرحل بي من محطة الصمت والغربة والوحشة والفقدان والحنين للشوارع والبيوت والناس والشوق إلى إلى ورديات البوليس وتجليات " عَشَّهْ باكستان " وهي ثملة تدلق برقاً ناصعاً من رؤيا الكون، رغم أنها سليلة الشوارع والأزقة والقمامة وصديقات الليل الساحرات، تذكّرت مشاوير أُمْ دُرْمَانْ ومنتدياتها وصداقاتها والشوق إلى اُمْ بَدَّهْ وتفاصيلها وتسكعاتها وجنونها الزاخر الذي يخصني ودُكَّانْ أحمد الأمين - نافذة الحياة اليومية في ذلك الشارع الواسع والميدان العريض .... وحتماً لن تسقط من بلّور الروح " مبروكة " تلك القرية التي رّعّتْ طفولتنا بأصوات أراها الآن أكثر وضوحاً مثل إلهٍ يضخُّ مياه إكتشافاته في صلصال الخليقة بعناية ماهرة . كانت تلك الرسائل تسد الكثير من الفراغات التي أزهرت في الروح بفعل الرحيل ومغادرة تلك الذاكرة الحيّة، التي تتوالد يومياً في تلك المراعي الساحرة .
( 4 )
أذكر يا محمد رسالة خلقك الأولى،صراخ أمّي المرعب وهي تتهيأ لولادتك بالمنزل كعادة القرويات جميعاً، كان الوقت عصراً، لم أستطع احتمال ذلك الألم رغم فرحة الشوق التي تسكنني تجاه كائنٍ جديد كنّا نتمناه بنتاً، إضافة لأماني أختنا الوحيدة بين أربعة أولاد، هرباً من هذا الألم الذي تعيشه أمي تحت جحيم المخاض أو لَذّة المخاض، ذهبت إلى أحد أطراف القرية القريب من بيتنا، أنضممت لمجموعة من الأطفال كانوا يلعبون " التِّيِوَهْ "، كنت ظاهرياً أبدو كمن يشارك في اللعب، لكني في الواقع كنت أرتعد من الخوف على أمي ..دخل الليل، عدت إلى البيت، لم أجد أمي، كانت لحظة انتظار غارقة في الهلع والخوف، تعثرت ولادتها فأُخذت لمستشفى أُمْ جَرْ المجاور لقريتنا / ياااااااه ما هذه المصادفات الغريبة، كل المدن التي حضرت هنا في هذه الكتابة تبدأ بـ أُمْ / أُمْ دُرْمَانْ / اُمْ بَدَّهْ / أُمْ جَرْ / وكلها ذات صلة مضيئة بهذه الذاكرة التي تتأمل حياتها، ربما هذا جزء من الحنين والمحبة الدائمة للأمهات . يوماً قلتُ في جزء من قصيدة " مهاجر " :
يا لهذا الغريبينامُ على شرفة الرّيحخائفاً من صهيل الأمهات في الحلم البعيد .
في وقت متأخر من ذلك المساء، ولدت أنت يا محمد، فرحنا لأن أمي تخلصت من ألم الولادة وحَزِنّا بضجرٍ ظاهرٍ لأنها لم تنجب لنا بنتاً، وعادت بك من المستشفى ربما في اليوم الثاني أو بعد ذلك، وتبدَّدَ الحزن، حزن أنها لم تنجب بنتاً، وفرحنا بكَ، خاصَةً وأن المسافة بينك وعاطف أربع سنوات، وربما شعرت بحزننا ذلك وشاركتنا الرغبة، فقد جاءت بعدك " رندة " بوقت قليل، أختاً ثانية وحتى الآن، أذكر طفولتك الرائعة وكيف كنت أحملك وأذهب بك خارج القرية المُغَطَّى تماماً بأعشاب الخريف، تحبو أنت وتعبث بالعشب، لم يكن هنالك حدائق ولا أماكن ترفيهية عامة، كانت هنالك الطبيعة طازجة تنمو على صوت المطر والتربة اليانعة وموسيقى العصافير التي تحضر بكل أحلامها إلى القرية في هجرتها الموسمية ، وأذكر من المشاهد السابقة لهطول المطر سعادتنا حينما يُنادى علينا نحن الأطفال ليُحضر كل واحد منا إناء ملئ بحبوب الذرة اليابسة أو الليِّنة أو اللوبيا أو الفاصوليا وتخلط وتطهى جميعاً في قِدْرٍ ضخم مع الماء ولحم بهيمةٍ تُذبح خصيصاً لهذا الغرض، بمثابة نداء كي يهطل المطر، يُمْتعنا جدا هذا الطقس الذي يتم في الشارع، تحت ظل شجرة حاج الصديق . وبحجم الإناء الذي أحضره الطفل يُمنح نصيبه من تلك الوجبة اللذيذة جداً بمغايرتها ومخالفتها للمألوف وطقس إعدادها النادر لنلتهمها بنهمٍ في الشارع ونعيد الإناء فارغاً للبيت .
( 5 )
بمناسبة عيد الأم لهذا العام 21 مارس 2005، طلبت مني الصحفية بجريدة الحياة اللندنية فضيلة الجفال إن كان لدي رسالة لأمي بمناسبة هذا العيد أن أكتبها لتنشرها ضمن تحقيق دعت آخرين للمشاركة فيه، قبلت الدعوة فوراً وفرحت جداً بهذه السانحة الجيدة، إذ أنها المرة الأولى التي أُوجهُ فيها كلمة مكتوبة لأمي على إيقاعات عيد الأمهات وهي الأمية التي لا تقرأ ولا تكتب، أذكر كنت أكتب لها رسائل عادية تتعلق بالسؤال عن الحال والاطمئنان لتُقرأ لها أو أرسل لها رسالة مشتركة هي وأبي / ذلك الكائن الفريد هو الآخر / وهو يقوم بقراءتها لها، وقد كان، كتبت لها رسالة قصيرة بمناسبة عيد الأم ونشرت الصحافية فضيلة الجفال ذلك التحقيق بجريدة الحياة تحت عنوان " أبناء يعتذرون إلى الأم في يومها ... لم نكن نعلم " وكانت كلماتي لها :هاهو اليوم عيد الأمإشارة رمزية، عبرها أدلقُ مياهاً وأشواقاً ومحبات كثيرة . أشياء لا تُحصى بقواميس الكون كنت جاهدة دائماً لتخلقينها وتفعلينها لأجلنا وتغمرينَ دروب حياتنا بهالذلك صدِّقينيلن تكفي أكواب الخريف كلها لتردَ لكِ بعضٌ من مطر الحنان الذي سكبته روحك بداخليولكِ أبداً أيتها الرائعة في صنع الحياة بحرٌ من قداسة لن أدعها تبهتْ وأنا أعرف بحالٍ حتمي أن كل هذا لن يعدل جزءاً يسيراً من ينابيع محبتك الأزلية التي ما زلت أرْعى في حقولها بأمانٍ ساطعٍ بل وجودكِ بداخلي هو أعظم هدية إنسانيةتجعلني دائماً أغتسل في محرابها لأواجهَ هذا العالم بأحضانِ أمٍ نادرة .لك يا أمي " آمنة " وكل الأمهاتِ رفيف أرواحنا ..... بأمل أن نحجب هجير الحياة اللاسع وقسوتها عنكن، ونفرح بكن يا ينابيع الكون الآمنة .
( 6 )
إنها الرسائل تفتح صهيل الذاكرة والذات ....تفتح النوافذ المغلقة وأنهار السيرة الراكدة ...اشتقت لذلك الوقت / ذلك الطقسطقس الكتابة بالمواد الخام الأولية - القلم والورقة .البريد الإلكتروني رغم إمكانياته واحتمالاته الأكثر إتساعاً وجدواه الأكثر نصاعة مع هذا الواقع الراكض بجنون نحو سباقات لا نهائية، ظل هذا البريد الإلكتروني يستهلكنا في الرسائل التلغرافية القصيرة والحكايات العادية في الماسنجر التي تخضع كلها لجنون الوقت ولهاث الإنترنت وسرعتها ودروبها الشائكة والوعرة وكمائنها التي لا تكف عن إغواءات أبدية ومستمرة .البريد الإلكتروني خلقَ رسائلَ تشبه ثقافته وتشبه بيئته والراهن المشتت والممزق والمرتبك والشائك في احتياجاته ومعادلاته ومتطلباته ونسَقه المتشابه .... وأيضاً وفرة الهاتف التي تناسلت في كل البيوت وفي كل يدٍ أحرقت الكثير من مبررات الرسائل بمخيلتها الوفيرة وقوة دفعها السحرية وركلتها في ركن قصيٍ من إرث الماضي البطيء . واختفى طقس الرسائل بأصواته الطازجة وإنتظاراته اللذيذة التي تكشف عن رغبةٍ فارعة لقراءة نصوص أخرى تنتمي لجنس أدبي / ثقافي / اجتماعي / إنساني، اسمه الرسائل، يتسكع في الطريق على حقيبة مسافر أو في اتجاه صندوق البريد بما يمثله من صلة سحرية مع هذا العالم / الرسائل .
( 7 )
صَدِّقني يا محمدفي هذه اللحظة احتلتني تلك الرغبة الجامحة وذلك الطقس في الكتابة / كتابة الرسائل بحبر يخرج كأنما يسيل من أعالي الغيب، الغيب الوحيد الذي نملكه - الذاكرة بكائناتها التي نخلقها ونرعاها بمشاهداتنا، بقراءاتنا، بسلوكياتنا، بصداقاتنا، بالمشاوير اليومية، بالانتهاكات المستمرة لبراءة الفطرة الخاملة، باللهاث المجنون نحو رياحٍ تشتهي بذار اللغة وعلف المخيلة لتنجز نص الروح وأشجار الكون الخالدة .الرياح واحدة من كهنة الحرية المخلصين يا محمد، لا تعرف الموت ولا تعرف الصمت الطويل، الرياح القادمة من سلالة الحركة هذه الفاعلية المدهشة، الكافية لكشط غطرسة الشمس وتحريك الغيوم الراكدة وزلزلة الجليد المطمئن في النوافذ والطرقات ونثر بذور الشّجر النادر في حقول الأرض النائية . الرياح رفيقة العشب في هجراته الكثيرة ومرشدة الطيور إلى أوطانها العديدة .
الرياحشبيهة الرسائل .هكذا تبدو لي سيرة الرياح وأنا أتأمل سيرة الرسائل .الرسائل شبيهة الرياح .الرسائل صهيل الذات وغابة الروح المفتوحة لكل الوحوش كي ترعى بسلام، كي تركض في دهاليز الداخل وتُخرج ما قالته العتمة وما نسجه الضوء وما اقترفته الذاكرة وما أنتجته المخيلة من نبوءات ...الرسائل هي سيرتنا الذاتية الوحيدة الصادقة في ظل واقعٍ مهشم وخائفٍ ومقموعٍ ووجل، لا يحتفي بكتابة السيرة الذاتية كعمل أدبي مثلها مثل الرواية والقصة والشعر وأدب الرحلات ربما يعترف بالسيرة الذاتية المهادنة جداً والمتفقة تماماً مع الرغبة الاجتماعية السائدة بكل صناديق أسرارها وحشمتها .ومكتبتنا السودانية فقيرة جداً في أدب السيرة الذاتية بل المكتبة العربية بكاملها ليست بأحسن حالاً، لكن يجب أن لا ننسى المغربي محمد شكري، وحده الذي أنتج سيرته الذاتية الصادقة وبمهارة إبداعية فذّة ، التي أصبحت نصاً أدبياً رفيعاً يحمل بداخله إجابات ثقافية وجغرافية وتاريخية واجتماعية ونفسية واقتصادية وإنسانية شاملة، ليست سيرة خاصة بالنزوات والطيش وحياة المجتمع السرية فقط كما يرى البعض، بل لو حاول محمد شكري كتابتها وفق المسموح به، لقدم للقارئ سيرة مجتمع كاذبة وزائفة وصناعة حياة مختلفة لا تخصه .لذلك لو قُدر لكائن أسطوري أن يجمع رسائل كاتب ما أو سياسي ما، مُدجّن تحت الخوف من كتابة السيرة الذاتية بكل ملامحها، لو قدر لهذا الكائن الأسطوري أن يرصد ويجمع تلك الرسائل التي كتبها الكاتب أو ذلك السياسي منذ أبجدية الكتابة التي عرّفته كيف يكتب الرسائل وحتى الراهن الذي يعيشه، أعني رسائله إلى أهله وأصدقائه وحبيباته وصديقاته وأعدائه ومناصريه ومعارضيه ومخالفيه والمتفقين معه، لاستطاعت تلك الرسائل أن تكشف كل ما يمكن أن تغيبه السيرة الذاتية الخاضعة لقوانين الحشمة ولأفادت هذه الرسائل في تكملة النص الغائب والغاطس في تلك السيرة الذاتية لذلك الكاتب أو ذلك السياسي أو أولئك الذين أدرجوا سيرتهم الجزئية في كتب تحت مسميات " حياتي " أو روائيون ينثرون سيرتهم في كتابات روائية محايدة وأبطال وشخصيات يمكن التخلص منهم ونكران حياتهم .
إذن هكذا يا محمد يجب أن تكون للرسائل محبتها الخاصة، وهكذا لمعت في روحي سيرة الرسائل القديمة، تذكرت رسائلنا العاصفة بمحبتها وحواراتها وآرائها، تلك الرسائل التي كتبناها خلال التسعينات بعد خروجي من السودان وأيضاً لا يمكن أن أنسى رسائل صديقنا الشاعر والقاص ستيفن جوزيف ميان، الذي أختار هذا الاسم كحق إنساني محض، وكتفسير لمفردات تخص رؤيته وحريته وعلاقته بهذا العالم، أذكر رسالته التي ختمها لي : عذراً حبيبي، سمَّيْتني : ستيفن جوزيف ميان، وظل من وقتها في منتصف التسعينات يوقّع أعماله وينشرها بهذا الاسم حتى وقت قريب، لكنه يا محمد في آخر مكالمة من منفاه في أميركا، تقريباً في سبتمبر 2004 قال لي قررت أن أعود لاسمي : نجم الدين علي جمعة وأرجو إذا نشرتَ لي أي نص أن تنشره باسمي الحقيقي .وأيضاً لا أنسى رسائل صديقتي وحبيبتي وخطيبتي - زوجتي لاحقاً اعتدال، وذكرت كل هذه المحطات الخاصة باعتدال لان لكل مرحلة نزقها وجنونها ومشاكساتها ومحبتها وصوتها ومفرداتها وكهوفها ورسائلها، خاصة أن ما بين أول محطة وآخر محطة أربع سنوات متتالية من الغياب نسجت سفراً ضخماً من الرسائل وسيرة الروح والذات ومستودع أفكار وتصورات واحتمالات . الرسائل، أجزاء من سيرة طويلة، يجب نمسك بخيوطها وخرائط روحها.
( 8 )
الآن يا محمد تمر علينا عشرة أعوام ولم نلتقي، إنها سنوات حكم الإنقاذ بكل بؤسها وعذاباتها، زرعت صخرة الرحيل والهجرة والمنفى في كل بيت، حولت السودان إلى مستودع أحزان كبير، حولت السودان إلى مستعمرة تديرها عصابة حاقدة على المجتمع والناس، حيث غادرت أنت للقاهرة بكل ضجيجها وحياتها الصاخبة وحيوتها وربما إحباطاتها من زوايا أخرى وستيفن جوزيف ميان إلى القاهرة ثم أميركا وصار الهاتف صلة التواصل اليتيمة بيننا وأنا قبلكم غادرت الىالرياض، وكما قال صديقي الشاعر عصام عيسى رجب حين سئل في حوار لجريدة الزمان اللندنية عن علاقته بالشعر والشعراء هنا ومدى التواصل الشعري هنا، قال نحن هنا لأسباب مهنية وليست شعرية، ربما لم يُرِد أن يقول لم أتعرف على هذا الوجه هنا، لذلك يا صديقي تستهلكنا آلة العمل الطاحنة وأي فعل آخر خارج طبيعة العمل والمهنة التي نؤديها يحدث فقط ضمن هامش صغير من الوقت، حتماً لا يشبع الروح بما يكفي من كائناتها التي نحبها، القراءة، الكتابة، الأنشطة الثقافية وما إلي ذلك . فالواقع الثقافي هنا يبدو سجيناً في وتيرة معينة ونشاطات طقوسية يعلو فيها صوت الشعر الشعبي والتجارب التقليدية بدرجة عالية جداً والأندية الثقافية المنحازة للرسمي بكل ترسانته المحافظة، واقع ثقافي لم يسعى بعد للانفتاح على تجارب الآخرين بداخل رقعته الجغرافية بل حتى لم ينفتح على تجارب أبنائه الأكثر حداثة وتجاوزاً للنص التقليدي ولقد قرأت نصوصاً شعرية وروائية وقصصية عالية المستوى ورفيعة جداً في حفرياتها الإبداعية المتميزة لكتاب محليين استطاعوا أن يتجاوزوا محابس الداخل ويخترقون دروباً وعرة وشائكة وينسجون لهيب أصواتهم العابر لمتاريس الواقع المحافظ.
( 9 )
أخي محمدظللت في كل إجازاتي للسودان لا أجدك هناك، وهذه واحدة من برك الفقدان المريرة، أي أن وجودي هناك ظل دائماً ناقصاً والأصدقاء كلهم يسألون عنك بشوق ساطع كأنما كانوا ينتظرونك قادماً معي أو كانوا ينتظرون مني إجابة مني بقرب عودتك لهم . يسألون عن روايتك " هيسبرا " متى ستصدر وعن " جنائن الهندسة " وعن " التماثيل العزيزة " وعن نصوصك الجديدة واقتراحاتك المستمرة في جمالياتها على مستوى النص الذي تكتبه ورغبتك الدائمة في كتابة مختلفة ومغايرة ومغامرة .وهذا هو الناقد محمد الربيع محمد صالح في حوار أجرته معه جريدة الرأي العام السودانية في 18 فبراير 2005م الذي كان هنالك في إجازة قصيرة قادماً من دولة قطر، يقول عنك شهادة تراهن بقوة على مشروعك الإبداعي : " محمد الصادق الحاج، أقول عن تجربته بمنتهى المسئولية أنه أحد أعظم الكتاب المعاصرين وأعلن استعدادي للمنافحة عن هذه التجربة والدفاع عنها وتبريرها نقدياً، محمد الصادق الحاج كاتب جسور ومقاوم كبير تقصر قامة المؤسسات الثقافية عن نشر إبداعه الكبير بما يحويه من كشوف معرفية، هو كاتب رفيع بالمستوى المحلي والإقليمي والعالمي ."
( 10 )
محمد كيف هو الصديق الشاعر أمير شمعون، رفيقك في الكتابة والغربة والغياب والوحشة والانتظار وشوارع القاهرة والكثير من الأحلام والبؤس والآلام وماذا أنجز من كتابات أخري بعد مجموعته الشعرية " التي بعد البرجل " هذا العمل الشعري المغامر والمختلف والذي يبشر أيضاً بمشروع شعري وكتابي يخص أمير شمعون ويحمل فرادته وجدته ومغايرته وجرأته العالية .وصديقنا الجميل الشاعر ناجي البدوي الذي كنت كلّمتني عنه منذ سنوات وأرسلت لي بعض نصوصه، إلتقيته في السودان وأنت غائب، كان دائماً قريباً مني، إنساناً نبيلاً وشاعراً عظيما، يقتله الشوق والحنين إليك، ويكتب بمحبة عالية للنص وإرهاصاته الجديدة وفي مقطع من قصيدته " الرغبة يا قلنسوة قمامتي المضيئة " يقول :
للحنانِ والشَّغفِ الأمينلشبابيكِ الإلفةِ المُطلّةِ على شوارعِ يأسيلعضلاتِ المياه المجنونةِللرِّيشِلتقريعةٍ حادّة ثَقَّبتنيسأضع القُلنسُوةَعلى رأس الريحوأرقص ......
( 11 )
إنه الشوق يا محمد لورقةٍ طازجة ما زال مُورقاًورسول الحبر الطازج الذي دخل عليّ وقادني لكل هذه المحطات والإشتياقات والتفاصيل لم يكمل مهمته الرسالية، لقد ورّطني على صفحة الكمبيوتر البيضاء، وجعلني أخدش براءتها بالكيبورد ولم يمارس غوايته الكاملة في استدراجي لورقة " فلسكاب " أختصها بكل هذا الحنين وأضمها لسلالة الرسائل السابقة من منتصف التسعينات وحتى نهايتها وبعد ذلك بقليل .الأكيد أن الذي هزمه هو الآخر /أي رسول الحبر الطازج / هي سطوة التكنولوجيا والإنترنت كواحدة من أبهى تجلياتها وانتصاراتها على ذاكرتنا التقليدية وشهوتها التقليدية ورغبتها الأثرية في ذلك الطقس اللذيذ من كتابة الرسائل ودلق آبار الذات كلها في ماعون الورقة بسائل الحبر الذي يحبه أي من كائنات الأرض كيفما شاء .حتماً سأزورك هذا العام بالقاهرة ونفتح كل الكمائن التي كاد أن يأكلها الصدأ، ونكشط عن دماء الروح غبار السنوات الفاجع ونرى كل ما قالته هذه السنوات في سيرتنا وهذا العالم .
ولك صهيل المحبة الأبدية .
أخوك نصار الصادق الحاج